لا شـك أن الهـدف النهائي من أية جولة في القدس هو زيارة
الأماكن المقدسة فيها وإغراق النفس والجوارح في هالة قدسـيتها. ولكنك لا
تسـتطيع أن تزور الأماكن المقدسة في القدس دون أن تمر بالأماكن المدنسـة
فيها، ولا تسـتطيع أن تـغرق نفسـك وجوارحك في هالة قدسـية القدس دون أن
ترى بأم عينيك محاولات تدنيسها وانتهاك حرمتها. ولهذا ارتأيت أن أبدأ هذه
الجولة بهذه الصـور التي تظهر ملامح تدنيس القدس والوجود الذي ينتهـك
بسـلاحه حرمتها ويلوث بأقدامه بلاط شوارعها.
الهدف من هذه الصور هو أن أذكـّر الذين نسـوا وأعـرّف
الذين لا يريدون أن يعرفوا، بأن قدس العروبة محتـلة من قبل الدولة
اليهودية. و "محتلة" ليست صـفة مضـافة إلى القدس تضـيف معلومة إليها أو
تصف جانبا من حالتها الراهنة، بل هي جوهر وجود القدس وطعمها ورائحتها
وأنفاسها ومزاجها ونبض عروقها. القدس ليست قدساً... إنها قدس محـتلة.
والأقصى ليس الأقصى... إنه أقصى محتل. وكنيسة القيامة ليست كنيسة
القيامة... إنها كنيسة محتلة.
قدس أقداس العرب محتل ومغتصَـب ومنتهَـك ومدنَّـس... هذه
هي الحقيقة التي تنضح بها زقاقات القدس، وكل من ينسى ذلك أو يتناساه، عن
قصد أو غير قصد، يخـذل القدس وكل ما تعنيه وترمز إليه وتعبر عنه. وكل من
يدعي الاهتمام بالقدس وإجلال قدسـيتها ويتباكى عليها وعلى أمجادها، وفي
نفس الوقت تغيب عن ذهنه هذه الحقيقة العارية (أن القدس محتلة ومغتصبة)،
عليه أن يراجع نفسه ويعيد تقييم عروبته.
الاحتلال الإسرائيلي للقدس ليس مجرد وضـعية سـياسية أو
تعريف إداري، وإنما هو وجود كلي تسـلطي مهيمن ينخر في نخاع كل إنسان من
أهل المدينة ويعتصر كل ثانية من حياتها ويفرض نفسه على كل حجر وزاوية
فيها... أنه وجود اسـتعلائي احتكاري لا يعترف بعروبة المكان ولا بحق العرب
فيه، وهو تآمرى يريد أن يفرغ المدينة من العرب والعروبة ويحولها إلى هيكل
لـ "أنبياء الألفية الثالثة".
قوات الاحتلال موجودة في كل مكان، تفحص الهويات وتخالف
السائقين وتصادر عربات البيع وتطرد بائعات الخضار وتتحرش بالناس وتثبت
للجميع أنها صاحبة الأمر والنهي، والويل ثم الويل لمن ترتسم على وجهه
علامة استياء أو تبدو على جسمه حركة يمكن أن تفسَّـر على أنها استنكار.
هذا في الشوارع والأسواق. أما الملاحقات والمضايقات والطرد والاستيلاء على
البيـوت والأراضي الخ... فيستغرق الحديث عنها أياما وأسابيع.
والنتيجة فقر وبطالة وفراغ ويأس وتمزق وضياع، تعُـمّ من
تبقـّى من عـرب القدس صـغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وشـعور قاتل بالعجز
وفقدان الحيلة والوسيلة، وتفـَشـّي سـلوكيات الشـذوذ والجريمة ومظاهر
الأسـرلة وضـعف الهوية الثقافية العربية في صفوف الأجيال الشابة. وليس كل
هذا مجرد انطباع شخصي عام، بل حقائق موثقة يؤكدها العديد من الأبحاث
والدراسات.
وضع القدس وسكانها كوضع هذا الشاب المقدسي الذي يقضي معظم
وقته جالسا هكذا في باب العامود، منحشراً كالفقاعة بين عنجهـية التهويد
المتصاعد وبين مغريات الغرب المتآمر بحياديته التي تخفي نواياه
الانتهازية... هذا هو وضع القدس وسكانها، ووضع فلسطين وأهلها: فقدان الهدف
والمعنى والاتجاه، والتحديق في أفق من الصخر المتجهم، والتأمل في لاشيئية
الأشياء.
كثيرون هم الذين يعتقدون أن قضية القدس المحتلة هي قضية
مدينة تاريخية يتم تخريبها وأماكن مقدسة يتم الاعتداء عليها، ولا تتحرك
أفئدتهم وضـمائرهم إلا حين يسـمعون عن حفريات الأقصى أو مصادرة أراضي
الكنيسة أو تمزيق جسد القدس بجدار العزل العنصري الذي يشـيّـد في أحشائها.
والحقيقة المريرة التي يجب أن تقال لهؤلاء هي أن قضية القدس هي قضية إنسان
القدس ... قضية معاناة يومية لا تنقطع في حياة مليئة بالقهر والظلم
والحرمان والإهمال... قضية مخطط شرير لسـلخ القدس عن إنسانها وسـلخ إنسان
القدس عن مدينته.
القدس يتم الاعتداء عليها وتخريبها وتهويدها في كل لحظة
وكل يوم منذ احتلالها عام 1967، وكذلك يتم الاعتداء على فلسطين وتخريبها
وتهويدها في كل لحظة وكل يوم منذ احتلالها عام 1948. فهل من عروبة تعي
حقيقة هذا التآكل وتدوس على الفرامل؟ وهل من رجولة تكبح جماح العربة وتمنع
انزلاقها إلى حضيض اللارجعة؟
القدس ليست الأقصى فقط، بل الأقصى رمز لمأساة القدس ونكبة
أهلها، وفلسطين ليست القدس فقط بل القدس رمز لمأساة فلسطين ونكبة أهلها.
فمن يختزل القدس إلى الأقصى يخذل القدس وأهلها، ومن يختزل فلسطين إلى
القدس يخذل يافا وحطين وحيفا وجدّين وغزة وجنين. من هذا المنطلق نتجه نحو
المسجد الأقصى لنتعرف على معالم القدس، ومن هذا المنطلق نتجول في مأساة
القدس لنـُذكـّر أنفسنا بمأساة فلسطين.